مناهج الدعوة الصوفية في نشر الإسلام إلى إندونيسيا

بقلم : أحمد صافى محي الدين

لا نعرف على وجه التحديد متى دخل الإسلام إلى أرخبيل (جزر ما يعرف بإندونيسيا وجوارها اليوم)ـ ولكننا نميل إلى الرأي القائل : إن العرب كان لهم مراكز تجارية في هذه البلاد، ومع هؤلاء العرب التجار منذ القرن الأول الهجري والثامن الميلادي، كان الإسلام يجد له طريقا في قلوب أبناء هذه الجزر وإلى هذا الرأي يميل سير توماس أرنولد (انظر رأيه في كتابه (الدعوة إلى الإسلام)، باللغة الملايوية، ص ٤٠١ .) ويقوي رأيه بما عثر عليه في بعض المذكرات الصينية أنه في عام ٦٨٤ ميلادية، قد عثر على داعية عربي في سومطرا الشمالية (الإسلام في أرخبيل الملايو : ص ٧٨ .). كما نستريح إلى الرأي القائل : إن الصوفية هم من الدعاة الأوائل الذين قاموا بنشر الدعوة في هذه المنطقة. ومن بين هؤلاء الباحثين الذين يرون هذه النظرية ويؤيدونها تأييدا قويا البروفيسور الدكتور الحاج عبد الملك أمر الله الشهير بالبروفيسور حمكا وهو عالم من كبار علماء إندونيسيا  (في كتابه التصوف: تطوره وتطهيره، للدكتور حمكا، Penerbit PT Pustaka Manjimas, Jakarta، سنة ١٩٨٤، ص ٢٣٢ و ٢٣٣ .). فمكة كانت مقصد طلاب العلم الملايويين وخصوصا في الفترة ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر الميلاديين، وكانت مادة التصوف مهمة في تلك الأيام، حتى صار الالتزام بطريقة من الطرق الصوفية عند العلماء والطلبة الملايويين عادة يعتقدون أنها تنمي نزعتهم الروحية وتقويهم، وعندما كان يعود هؤلاء إلى بلادهم كانوا يحملون العلم الشرعي، ويمارسون طريقة واحدة أو أكثر.

منذ أن بدأ الإسلام ينتشر انتشارا واسعا في هذه المناطق الشاسعة والجزر المترامية بغير حرب ولا سلاح وبصورة سريعة بدأ التصوف يرسي تعاليمه ومبادئه الروحانية في نفوس الملايويين تدريجيا حتى ترسخت أفكاره في المجتمع بشكل راسخ وملموس حتى يومنا هذا؛ فمع مجيء الشيخ عبد الله العارف كان مجيء الشيخ إسماعيل ظفي الذي زار آتشيه بشمال سومطرا الإندونيسية، وعمل على الدعوة إلى الإسلام متلازما مع نشر طريقته القادرية. ومن هؤلاء الدعاة الأوائل الشيخ أبو عبد الله مسعود بن عبد الله الجاوي الذي ذكره الشيخ يوسف النبهاني قائلا بأن “الشيخ الجاوي عالم مشهور كان له تلاميذ كثيرون في عدن”( انظر ترجمته في كتاب جامع كرامات الأولياء بقلم محققه أستاذي الجليل الشيخ إبراهيم عطوه عوض، بيروت : المكتبة الثقافية، ١٤١١هـ/١٩٩١م، ص ٣-٨ باختصار .)، وقد توفي في سنة ٧٦٨هـ/١٣٦٧م ، وكان معاصرا لابن بطوطة، وعاش في مملكة باساي الإسلامية الشهيرة بسومطرا، وهكذا جمع الجاوي بين تأثيره بين العرب والملايويين في آن واحد، لكن مؤلفاته اختفت اليوم. (جامع كرامات الأولياء، ج ٢، ص ٤٦٨ .)

وفي القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) اشتهر في عالم الملايو خاصة في جزيرة جاوا الإندونيسية قصة الأولياء التسعة. كان هؤلاء الأولياء التسعة من الدعاة الأوائل في هذه الجزيرة التي كان شعبها يعتنق الديانة الهندوسية والبوذية. ويسمى هؤلاء الأولياء التسعة لأنهم كونوا أنفسهم كفريق الدعاة المكون من رجال لا يزيد عددهم عن تسعة دعاة في وقت واحد، ويسمى رئيسهم الولي، وعندما توفي أحد منهم يحل محله داعية آخر ليكون العدد تسعة أفراد (انظر رسالة كبرى : مجربات الأولياء التسعة، ص ١٠-١٦، وكتاب الجواهر من قصص الأولياء التسعة باختصار من أوله إلى آخره .). وبالفعل اشتهر من بينهم تسعة دعاة شهرة كبيرة تفوق الباقين، وهم :

(١)        الشيخ مولانا مالك إبراهيم، الشهير بلقب الشيخ المغربي، وأصله من جوجرات  الهندية.ويعتبر أول مؤسس لمدرسة دينية تقليدية تخرج الدعاة المسلمين الذين نشروا الدين الإسلامي في أنحاء جزيرة جاوا.

(٢)        رادين رحمة الشهير بلقب سونن أمبيل (Sunan Ampel)، وكان أصله من كمبودجيا. قام بفتح مدرسة جهادية في أمبيل، سورابايا، ونشر الإسلام في جميع أنحاء جزيرة جاوا الشرقية. ويعتبر المؤسس والمخطط الأول للدولة الإسلامية في جاوا. وذلك بتنصيبه رادين فتاح (Raden Patah)، سلطانا لدولة دمك (Demak) الإسلامية، ويلقب بالسلطان شــاه ســري العـالم الأكبر الفتاح، وكان مقامه في مسجد أمبيل.

(٣)        الولي الثالث هو سونن مخدوم إبراهيم الشهير بلقب سونن بونـــانج (Bonang)، وهو ابن سونن أمبيل. وكان ينشر الأسلام في سواحل شمالي جاوا الشرقية. لقد سعى إلى تغيير أسماء أيام النحس في تعاليم الديانة الهندوسية وأسماء الآلهة الهندوسية بأسماء إسلامية مثل أسماء الملائكة والأنبياء، وقبره في توبان (Tuban).

(٤)        الولي الرابع هو رادين فاكو  (Raden Paku)الشهير بلقب سونن جيري (Sunan Giri) وأصله من بلمبانغن (Blambangan). وقام بنشر الإسلام في سولاويسي (Sulawesi)، وسوندا كجيل (Sunda Kecil). وكان رجلا تربويا ويقوم بتربية الأطفال المسلمين على الألعاب الإسلامية. وقبره في جبل جيري (Giri)، القريب من جريسيك (Gresik)، سورابايا، إندونيسيا.

(٥)        الولي الخامس هو الشـريف هـداية الله الشهير بلقب سونن جونونج جاتي (Gunung Jati) أو فتح الله (Fatahillah).

(٦)        الولي السادس هو جعفر الصادق الشهير بلقب سونن القدوس (Kudus)، قام بنشر الإسلام في سواحل شمالي جاوا الوسطى. وكان أديبا شهيرا يكثر من كتابة القصص الدينية. وقبره في قدوس (Kudus).

(٧)        الولي السابع هو رادين فراوُوتو (Raden Prawoto) الشهير بلقب سونن موريافادا (Muriapada). وكان ينشر الإسلام عن طريق الاقتراب من التجار والصيادين والبحارة، كما يبقي فن موسيقي جاميلن (Gamelan) الذي يحبه شعب جاوا بشدة ويستخدمه كوسيلة لإدخال التعاليم الإسلامية في نفوس الشعب، حتى لا يشعر الشعب أن فيه ذكر الله. وقبره في جبل موريا (Gunung Muria).

(٨)        الولي الثامن هو شريف الدين الشهير بلقب سونن درجات (Derajat)، وهو ابن سونن أمبيل. وكان رجلا يميل إلى الأعمال الاجتماعية. وكان -إلى جانب كونه شديد التدين- حريصا على الأعمال الخيرية العامة، ورعاية الأيتام والمرضـى. وقبره في سدايو (Sedayu).

(٩)        الولي التاسع هو ر. م. الشهيد الشهير بلقب سونن  كاليجوجو  (Kalijogo). كان يخترع “واينج كوليت”(wayang kulit) ويؤلف القصص المسرحية الإسلامية. وكان ينشر الإسلام في جنوبي جاوا الوسطى.

وبعد الحديث قليلا عن هؤلاء الدعاة الأوائل الذين نشروا الإسلام إلى هذه أرخبيل، ننتقل مباشرة إلى لب موضوع البحث وهو مناهج الصوفية في الدعوة الإسلامية في إندونيسيا.

أولا : دعوة الملوك والشعوب إلى الإسلام

إن التجار المسلمين والصوفية الأوائل يهتمون بنشر الدعوة الإسلامية وتعاليمها بين الشعوب والملوك في أنحاء عالم الملايو العريض. فبالنسبة لدعوتهم الملوك إلى هذا الدين، فقد ذكرتُ أن الأولياء التسعة نازلوا في عالم الملايو خاصة في جزيرة جاوا الإندونيسية ، كانوا يركزون دعوتهم على ملك ولاية جاوا، وبإسلام الملك ومن حوله من الأسرة المالكة وكبراء الولاية، أسلم كل الشعب، متمشيا تماما مع طبيعة الشعب الملايوي الذي يطيع الملوك طاعة تامة منذ قديم الزمان، وبهذا المنهج استطاع الصوفية أن ينشروا الإسلام بسرعة فائقة.

وبالنسبة لدعوتهم الشعوب إلى دين الإسلام، فقد وجدناهم كونوا مراكز استقروا فيها، وكانوا مثالا حسنا للتعامل وحسن السيرة، وامتازوا بالنظافة ورقي المعيشة، فاستهووا السكان، وكانوا دمثي الأخلاق، ذوي قابلية للاندماج بالأهلين فأصهروا إليهم، وأسلمت النساء اللائي تزوجن من المسلمين، وأنجبن ذرية مسلمة أسهمت في زيادة عدد المسلمين هناك، وفعل المسلمون الأوائل ما فعل المسلمون في غير قطر من شرائهم الأرقاء والأطفال، وتنشئتهم تنشئة إسلامية، ثم كانت لهم مساجد، وكونوا وحدات إسلامية امتازت بالرقي وحسن التربية(معركة التبشير : ص ١٠٦ .).

بدأوا بمعرفة ميول الشعب وهوايتهم، فاندمجوا بينهم اندماجا، وتثقفوا بثقافتهم، وتفننوا بفنونهم، حتى ظلوا محببين معززين عند الناس مما ييسر لهم الطريق ليرشدوهم إلى الدين القيم. ولقد واجهوا الناس في أنحاء البلاد بحكمة بالغة، وكانوا لا ينهون الشعب عن ممارسة أي شيء أحبوه، إلا وجعلوا له البديل حتى لا يتباعدوا عنهم ليتمكنوا من محاباتهم، ودعوتهم إلى الإسلام من غير أن يتعرضوا منهم لأذى أو عدوان أو رد فعل سيء، وعلى سبيل المثال، عندما علموا بميول الشعب وحبهم للموسيقى الجاوية المشهورة “جندينج”(Gending)، درسوا هذا الفن وأتقنوه، كتبوا كلمات تتضمن تعاليم الإسلام، ولحنوا لهم ألحانا، وكذلك عندما عرفوا حب الشعب لفن “وايانج كوليت” (Wayang Kulit) الذي كان يحكي ملحمة هندوكية وبوذية مأخوذة من القصص المشهورة في الكتب الهندوكية، وهي ملحمة “مهابراتا”(Mahabrata) و“رامايانا”(Ramayana)، ألفوا القصص التي تتناسب مع تعاليم الإسلام ومبادئه العالية الرفيعة بدلا من القصص الهندوكية. وفي القصص التي ألفــها لهم الصوفية، كانت تحكي دائما أن أقوى ما لدى الإنسان من السلاح، هو سلاح الإيمان الذي يبدأ بكلمة الشهادتين، وهذا السلاح أقوى من كل سلاح كان يستعمله أبطال ملحمة “مهابراتا” و“رامايانا”، لأن سلاح “رامايانا” سوف يزول، أما سلاح الإيمان، فباق إلى الأبد ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى. وكان الداعي الصوفي سونان كالي جاكَ يمتاز بـأداء هذه التمثيلية، وكان -بعد الانتهاء منها- لا يطلب من المتفرجين أية مكافأة له على عمله، سوى أن يرددوا وراءه الشهادتين في الإسلام، وهكذا قاد الكثير من الناس في طريق الإسلام (انتشار علم التصوف ورجاله في العالم الملايوي : ص ٤٠ .).

ثانيا : المشاركة في النظام السياسي والإداري

ومن مظاهر نفوذ الصوفية في عالم الملايو، ذلك الدور القيادي والإداري الذي لعبه كثير من الصوفية في البلاد. فالشيخ شمس الدين السومطراني مثلا، كان رئيس الوزراء لدولة أتشيه الإسلامية التي كانت تلك الأيام في حكم السلطان إسكندر مودا (انتشار علم التصوف ورجاله في العالم الملايوي : ص ٤٠ .). وبهذا، كان يجمع بين الأمور الكبيرة في نفس الوقت ؛ إدارة الدولة الكبيرة مثل مملكة أتشيه الإسلامية الواسعة النفوذ، والرئاسة في العلوم الدينية والشرعية، وخاصة علم التصوف، كما كان أديبا يحتل المركز الثاني بعد شيخه حمزة الفنصوري (انتشار علم التصوف ورجاله في العالم الملايوي : ص ٤١ .). وكذلك الشيخ نور الدين الرنيري، فقد لعب دورا كبيرا في دولة أتشيه الإسلامية كشيخ الإسلام الذي بذل كل جهوده في نشر الإسلام وتعاليمه، وحارب فيها تعاليم الوجودية التي يراها مذهبا فاسدا يخرج صاحبه عن الملة. ويمكن القول إنه لا يخلو عالم صوفي كبير ملايوي من أن يشارك سلاطين البلاد أو ملوكها ويساعدهم في أمور الدولة  كالمفتي، أو شيخ الإسلام، أو الوزير، أو المستشار الملكي.

ثالثا : إنشاء المساجد والمدارس الإسلامية

بجانب ما بذل الصوفية من الجهود، وما سلكوا من الطرق والوسائل لدعوة الناس إلى الإسلام بالحسنى، فإنهم يهتمون أيضا ببناء المساجد، وإنشاء المدارس الإسلامية، وتأسيس القرى العلمية الإسلامية للحفاظ على سير الدعوة الإسلامية في أنحاء البلاد.

وبالنسبة لبناء المساجد، فهو أمر شائع معروف لدى كل العلماء الدعاة الأوائل؛ الصوفية منهم أو غير الصوفية، فكل واحد منهم حريص على أن يبني المسجد ليكون مركز الدعوة الإسلامية ومنطلقها تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم بنى أول ما بنى في المدينة المنورة المسجد النبوي منطلق النور والهدى ومركز التعليم. ففي تاريخ الدعوة الإسلامية التي قام بها الصوفية الملايويون، نجد كل واحد منهم حريصا على تأسيس مسجد جامع، أو مسجد غير جامع، أو بناء المدرسة التقليدية أو القرية العلمية، أو تأسيس المسجد وبناء المدرسة معا.

رابعا : التأليف والترجمة

لقد أكثر العلماء الصوفية الملايويون من التأليف والترجمة في الفقه والعقيدة وعلم التصوف. وإنني لم أبالغ حين أقول إن معظم العلماء الملايويين يميل إلى علم التصوف أو يمارس الأعمال الصوفية، وذلك نظرا إلى قوة تأثير التصوف في البلاد.

فأول كتاب مصنف في عالم الملايو هو كتاب “بحر اللاهوت” تأليف الشيخ عبد الله العارف. ويعتقد أن للشيخ عبد الله العارف كتبا كثيرة غير هذا الكتاب، ولكن لم يعثر عليها سوى هذا الكتاب الذي كتبه باللغة العربية، وقد تم نقله إلى اللغة الملايوية في عهد مملكة ملاكا الإسلامية، وتحمل النسخة المترجمة اسم “بحر اللاهوت” أيضا. وجدير بالذكر أن هذه الفترة من الزمن تعتبر فترة البداية لحركة التأليف  والترجمة، ولم تزدهر بعد ازدهارا ملموسا. وأما في الفترة الثانية (القرنين ١٥-١٦ الميلاديين)، فلم تنشط حركة التأليف والترجمة في علم التصوف وإن كان هناك بعض المؤلفات في العلوم الأخرى. وأما في الفترة الثالثة (القرنين ١٦-١٧ الميلاديين)، فقد نشطت حركة التأليف والترجمة في كل فروع العلوم الإسلامية بصورة تلفت النظر. ونقتصر هنا على ذكر المؤلفين الصوفية ومؤلفاتهم دون غيرهم من العلماء والمؤلفات. من أشهر الصوفية في هذه الفترة الشيخ حمزة الفنصوري، والشيخ شمس الدين السومطراني، والشيخ نور الدين الرنيري، والشيخ عبد الرؤوف سينكيل، والشيخ يوسف تاج الخلوتي، والشيخ عبد الملك بن عبد الله الشهير بلقب تؤ فولو مانيس، والشيخ عبد الصمد الفلمباني، والشيخ محمد نفيس البنجاري وغيرهم. ( انظر مقال “المخطوطات الإسلامية الملايوية من جانب تقسيم المراحل الزمنية” للأستاذ وان محمد صغير بن عبد الله، ص ١ و٢، وانظر خزانة تراث المؤلفات الملايوية، الجزء الأول، ص ٣ .)

أكتفي بما تقدم من الحديث الوجيز لذكر مناهج الصوفية الملايويين في نشر الإسلام وتعاليمه وتوسيع دائرة الدعوة الإسلامية في عالم الملايو بصفة عامة، وإندونيسيا بصفة خاصة، واتضح لنا أن لهم فضلا كبيرا في نشر الدعوة إلى الله وقد أومأت إلى فضلهم في كل حديثي عن كل واحد من الصوفية، وبهذا نجـد أن لكل واحد منهم فضلا لا يستهان به في نشر الإســلام وتعاليمه. وإذا أردنا أن نستبين فضلهم في الدعوة الإسلامية أكثر، فلا بد من تخصيص بحث مستقل لذلك. والله أعلم.